الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَقَدْ تَمَارَى الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى مَذَاهِبِهِمَا فِي إِنْكَارِ تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِمَا هُوَ قَبِيحٌ كَالشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَفِي نَفْيِ عَقِيدَةِ الْجَبْرِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِثْبَاتِ الْأَشْعَرِيَّةِ لَهُمَا. وَقَدْ جَمَعْنَا فِيمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا بَيْنَ رَدِّ الشُّبْهَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَفْتُونِينَ بِهِمَا إِلَى الْيَوْمِ كَثِيرُونَ يَنْتَمُونَ إِلَى مَذَاهِبَ مَا لَهُمْ بِهَا مِنْ عِلْمٍ.وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نُلَخِّصَ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْآيَاتِ لِيُعْرَفَ مِنْهُ ضَعْفُ الْمَذَاهِبِ النَّظَرِيَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ لِأَهْلِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِنَّ احْتِجَاجَهُمْ كَمَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ بِعَيْنِهِ مَا نَصُّهُ: أَيْ جَاءُوا بِالتَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ رَكَّبَ فِي الْعُقُولِ وَأَنْزَلَ فِي الْكُتُبِ مَا دَلَّ عَلَى غِنَاهُ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَشِيئَةِ الْقَبَائِحِ وَإِرَادَتِهَا، وَالرُّسُلُ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ، فَمَنْ عَلَّقَ وُجُودَ الْقَبَائِحِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ فَقَدْ كَذَّبَ التَّكْذِيبَ كُلَّهُ، وَهُوَ تَكْذِيبُ اللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَنَبَذَ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ اهـ.وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ خُصُومُهُمُ الْأَشْعَرِيَّةُ بِأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ تَنْفِ بَلْ أَثْبَتَتْ وُقُوعَ كُلِّ شَيْءٍ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا مِمَّنْ فَعَلَهُ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عِقَابِهِ عَلَيْهِ لِإِتْيَانِهِ إِيَّاهُ بِاخْتِيَارِهِ كَالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَالْإِرَادَةَ مِنْهُ تَعَالَى لَيْسَتْ بِمَعْنَى الرِّضَا وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ، وَقَرَّرَ جُمْهُورُهُمْ أَنَّ مُرَادَ الْمُشْرِكِينَ بِشُبْهَتِهِمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَاضٍ عَنْ شِرْكِهِمْ وَتَحْرِيمِهِمْ لِمَا حَرَّمُوا، بِدَلِيلِ مَشِيئَتِهِ لَهُ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِ لَا أَنَّهُ أَجْبَرَهُمْ عَلَيْهِ. وَقَدِ احْتَجَّ السَّلَفُ بِالْآيَةِ عَلَى مُنْكِرِي الْقَدَرِ قَبْلَ حُدُوثِ مَذْهَبَيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، فَقَدْ رَوَى أَكْثَرُ مُدَوِّنِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ أُنَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ الشَّرَّ لَيْسَ بِقَدَرٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْقَدَرِ هَذِهِ الْآيَةُ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: انْقَطَعَتْ حُجَّةُ الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، أَيِ الْأَخِيرَةِ.وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي رَدِّ الْآيَةِ عَلَى شُبْهَتِهِمْ: أَيْ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ قَبْلَ هَؤُلَاءِ، وَهِيَ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمَا أَذَاقَهُمُ اللهُ بَأْسَهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ، وَأَدَالَ عَلَيْهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، وَأَذَاقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَلِيمِ الِانْتِقَامِ انْتَهَى. وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَذَّبَ الْمُشْرِكِينَ هُنَا بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللهَ رَضِيَ مِنْهُمْ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، لَا بِقَوْلِهِمْ: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} إِلَخْ. فَإِنَّهُ قَوْلٌ صَحِيحٌ، أَيْ وَلَكِنَّهُ حَقٌّ أُرِيدَ بِهِ بَاطِلٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِتَشْبِيهِهِ تَعَالَى تَكْذِيبَهُمْ بِتَكْذِيبِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِرُسُلِ اللهِ إِلَيْهِمْ، وَمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِنْكَارِ الشِّرْكِ، وَمَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَكِنَّ عِبَارَتَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُضْطَرِبَةٌ لَيْسَتْ كَسَائِرِ عِبَارَاتِهِ فِي الْجَلَاءِ. وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِهَا أَنَّ لَهَا عِنْدَهُ عِلَلًا أُخْرَى غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكِتَابُ قَالَ: وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ وَمَا قَالَ هَذَا إِلَّا مِنْ شُعُورٍ بِضِعْفِ الْعِبَارَةِ وَأَنَّهَا لَا تَكَادُ تُفْهَمُ بِسُهُولَةٍ.وَقَدْ جَارَى أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ صَاحِبَ الْكَشَّافِ عَلَى جَعْلِ شُبْهَةِ الْمُشْرِكِينَ عَيْنَ شُبْهَةِ الْمُجْبِرَةِ، ثُمَّ جَعَلَ الْآيَتَيْنِ مُبْطِلَتَيْنِ لِمَذْهَبَيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُجْبِرَةِ جَمِيعًا، فَقَالَ فِي الِانْتِصَافِ مَا نَصُّهُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا كَانَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مَسْلُوبُونَ اخْتِيَارَهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ، وَأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ إِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاضْطِرَارِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْحُجَّةَ عَلَى اللهِ وَرُسُلِهِ بِذَلِكَ، فَرَدَّ اللهُ قَوْلَهُمْ وَكَذِبَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ عَدَمَ الِاخْتِيَارِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَشَبَّهَهُمْ بِمَنِ اغْتَرَّ قَبْلَهُمْ بِهَذَا الْخَيَالِ فَكَذَّبَ الرُّسُلَ وَأَشْرَكَ بِاللهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَرَامَ إِفْحَامَ الرُّسُلِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ لَهُ لَا لَهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} ثُمَّ أَوْضَحَ تَعَالَى أَنَّ كُلًّا وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَشَأْ مِنْهُمْ إِلَّا مَا صَدَرَ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ مِنْهُمُ الْهِدَايَةَ لَاهْتَدَوْا أَجْمَعُونَ بِقَوْلِهِ: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَحَضَّ وَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَتَتَلَخَّصَ عَقِيدَةُ نُفُوذِ الْمَشِيئَةِ وَعُمُومِ تَعَلُّقِهَا بِكُلِّ كَائِنٍ عَنِ الرَّدِّ وَيَنْصَرِفَ الرَّدُّ إِلَى دَعْوَاهُمْ بِسَلْبِ الِاخْتِيَارِ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلَى إِقَامَتِهِمُ الْحُجَّةَ بِذَلِكَ. وَإِذَا تَدَبَّرْتَ هَذِهِ وَجَدْتَهَا كَافِيَةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ مَقْهُورٌ عَلَيْهَا، وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْمَعْرُوفُونَ بِالْمُجْبِرَةِ، وَالْمُصَنِّفُ يُغَالِطُ فِي الْحَقَائِقِ فَيُسَمِّي أَهْلَ السُّنَّةِ مُجْبِرَةً وَإِنْ أَثْبَتُوا لِلْعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً؛ لِأَنَّهُمْ يَسْلُبُونَ تَأْثِيرَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَيَجْعَلُونَهَا مُقَارِنَةً لِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، مُمَيِّزَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَفْعَالِهِ الْقَسْرِيَّةِ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ سِوَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُجْبِرَةِ وَيَجْعَلُهُ لَقَبًا عَامًّا لِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَجِمَاعُ الرَّدِّ عَلَى الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ مَيَّزْنَاهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} وَتَتِمَّةُ الْآيَةِ رَدٌّ صُرَاحٌ عَلَى طَائِفَةِ الِاعْتِزَالِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى شَاءَ الْهِدَايَةَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمْ تَقَعْ مِنْ أَكْثَرِهِمْ، وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ (لَوْ) إِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مُثْبَتٍ نَفَتْهُ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {فَلَوْ شَاءَ} لَمْ يَكُنِ الْوَاقِعُ أَنَّهُ شَاءَ هِدَايَتَهُمْ، وَلَوْ شَاءَهَا لَوَقَعَتْ. فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِبُطْلَانِ زَعْمِهِمْ وَمَحَلِّ عَقْدِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَ اشْتِمَالُ الْآيَةِ عَلَى رَدِّ عَقِيدَةِ الطَّائِفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ: الْمُجْبِرَةِ فِي أَوَّلِهَا، وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي آخِرِهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِعَقِيدَةِ السُّنَّةِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ أَوَّلَهَا كَمَا بَيَّنَّا يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً عَلَى وَجْهٍ يَقْطَعُ حُجَّتَهُ وَعُذْرَهُ فِي الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ، وَآخِرُهَا يُثْبِتُ نُفُوذَ مَشِيئَةِ اللهِ فِي الْعَبْدِ، وَأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ عَلَى وَفْقِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ خَيْرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ عَيْنُ عَقِيدَتِهِمْ. فَإِنَّهُمْ كَمَا يُثْبِتُونَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً وَقُدْرَةً يَسْلُبُونَ تَأْثِيرَهُمَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ثُبُوتَهُمَا قَاطِعٌ لِحُجَّتِهِ، مُلْزِمٌ لَهُ بِالطَّاعَةِ عَلَى وَفْقِ اخْتِيَارِهِ، وَيُثْبِتُونَ نُفُوذَ مَشِيئَةِ اللهِ أَيْضًا وَقُدْرَتَهُ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ، فَهُمْ كَمَا رَأَيْتَ تَبَعٌ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ، يُثْبِتُونَ مَا أَثْبَتَ وَيَنْفُونَ مَا نَفَى، مُؤَيِّدُونَ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ اهـ.وَنَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ أَجَادَ إِلَّا فِي زَعْمِهِ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، فَهَذَا مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْأَثَرِ وَهُمْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَبَعْضُ مُحَقِّقِي الْأَشَاعِرَةِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي عَمَلِهِ كَتَأْثِيرِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي الْمُسَبِّبَاتِ بِمَشِيئَةِ اللهِ الَّذِي رَبَطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالْوُجْدَانِ وَالْقُرْآنِ، وَأَطَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِثْبَاتِهِ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ وَغَيْرِهِ.ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُطَالِبَ مُشْرِكِي قَوْمِهِ بِإِحْضَارِ مَنْ عَسَاهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّهَدَاءِ فِي إِثْبَاتِ تَحْرِيمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْدَ أَنْ نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ، وَسَجَّلَ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَ الْحَزْرِ وَالْخَرْصِ لِيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ وَلَا الشُّهُودِيِّ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّقْلِ عَنْ ذِي عِلْمٍ شُهُودِيٍّ فَقَالَ لَهُ: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا} أَيْ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُونَ عَنْ عِلْمٍ شُهُودِيٍّ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ هَذَا الَّذِي زَعَمْتُمْ تَحْرِيمَهُ، وَهُوَ طَلَبُ تَعْجِيزٍ لِأَنَّهُ مَا ثَمَّ شُهَدَاءُ يَشْهَدُونَ، فَهُوَ كَالِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ قَبْلَهُ، وَكَقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا} [144] فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ، وَلَمْ يَقُلْ هَاتُوا شُهَدَاءَ لِيُحْضِرُوا أَيَّ امْرِئٍ يَقُولُ مَا شَاءَ، فَإِضَافَةُ الشُّهَدَاءِ إِلَيْهِمْ وَوَصْفُهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ إِحْضَارُهُ هُوَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ تَتَلَقَّى عَلَيْهِمُ الْأُمَمُ الْأَحْكَامَ الدِّينِيَّةَ وَغَيْرَهَا بِالْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَجْعَلُ النَّظَرِيَّاتِ كَالْمَشْهُودَاتِ بِالْحِسِّ، أَوْ كَالرُّسُلِ الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَ الدِّينَ مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَقْوَى الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ عِنْدَهُمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَكُونُوا أَنْتُمْ عَلَى عِلْمٍ تُقِيمُونَ الْحُجَّةَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَكَانَ عِنْدَكُمْ شُهَدَاءُ تَلَقَّيْتُمْ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّهَادَةِ فَأَحْضِرُوهُمْ لَنَا، لِيَدُلُّوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُجَّةِ الَّتِي قَلَّدْتُمُوهُمْ لِأَجْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أَيْ فَإِنْ فُرِضَ إِحْضَارُ شُهَدَاءَ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، أَيْ فَلَا تَقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ وَلَا تُسِلِّمْهَا لَهُمْ بِالسُّكُوتِ عَلَيْهَا فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْبَاطِلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ كَالشَّهَادَةِ بِهِ، بَلْ بَيَّنَ لَهُمْ بُطْلَانَ زَعْمِهِمُ الَّذِي سَمَّوْهُ شَهَادَةً- فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْفُرُوضِ تُذْكَرُ لِأَجْلِ التَّذْكِيرِ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا إِنْ وُجِدَتْ كَمَا يَزْعُمُ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ فِيهَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أَيْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُنَزَّلَةِ، وَمَا أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ مِنْ آيَاتِنَا فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِذْ لَمْ يَقُلْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، لِبَيَانِ أَنَّ الْمُكَذِّبَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ الظَّاهِرَةِ- إِصْرَارًا عَلَى تَقَالِيدِهِ الْبَاطِلَةِ- إِنَّمَا يَكُونُ صَاحِبَ هَوًى وَظَنٍّ لَا صَاحِبَ عِلْمٍ وَحُجَّةٍ.{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أَيْ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَيَحْمِلُهُمُ الْإِيمَانُ عَلَى سَمَاعِ الْحُجَّةِ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ فَيَتَّخِذُونَ لَهُ مَثَلًا وَعِدْلًا يُعَادِلُهُ وَيُشَارِكُهُ فِي جَلْبِ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْتِقْلَالِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَبِحَمْلِهِ لِلرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّأْثِيرِ فِي عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ.وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ هَلُمَّ اسْمٌ بِمَعْنَى فِعْلِ الْأَمْرِ يَسْتَوِي فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَعَالِيَةِ نَجْدٍ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ، وَيَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ أَصْلَهُ هَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ ولُمَّ الَّتِي بِمَعْنَى الْقَصْدِ، وَفِعْلُهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيُجْمَعُ فِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ فَيُقَالُ: هَلُمِّي وَهَلُمَّا وَهَلُمُّوا. اهـ.
|